قراءة في كتاب : انتفاء دلالة العلامات الإعرابية اسم المؤلف : أحمد سليمان البطوش
قراءة الأستاذ : فهد الحراصي - معلم لغة عربية
يتحدث صاحب الدراسة في تقديمه للكتاب عن الهدف من الدراسة قائلا :«حاولت هذه الدراسة الكشف عن مواطن انتقاء دلالة العلامات الإعرابية على المعنى في بعض اللهجات، وبعض الظواهر اللغوية في العربية، وبيان ضرورة الاعتماد على قرائن معنوية أخرى بدل هذه العلامات في تلك المواطن. » أما عن سبب طرقه لهذا الموضوع يُخبرنا الباحث في مقدمته للكتاب : «ولعل ما شدني إلى دراسة هذا الموضوع.- مضافا إليه ما سبق- ما أثار
انتباهي من بعض النماذج النحوية فيما يخص أثر العلامات الإعرابية على المعنى، الذي يفهمه المتلقي من الجملة أو التركيب، فولدت تلك النماذج في نفسي شعور بالرغبة لطرق هذا الباب منذ أن دخلت في المرحلة الأخيرة من دراستي الجامعية الأولى» ويعود الكاتب مرة أخرى يُذّكرنا أن من ضمن أهداف الدراسة «هو الكشف عن بعض النماذج اللغوية التي لم يكن للعلامة الإعرابية أي دلالة فيها على المعنى وإلى إعادة النظر من جدبد إلى القرائن المعنوية الأخرى».
- في التمهيد للكتاب ينقل لنا الباحث تقسيم الراجحي لأركان الإعراب وهي:
١- العامل: وهو الذي يجلب العلامة الإعرابية
٢- المعمول :وهو الكلمة التي تقع في آخرها العلامة الإعرابية
٣-الموقع: وهو الذي يحدد معنى الكلمة أي وظيفتها
٤- العلامة: وهي التي ترمز إلى كل موقع إعرابي للكلمة على ما نعرفه في أبواب النحو عند تصفحنا للفصل الأول من الكتاب ينقل لنا الباحث آراء أصحاب المعاجم في تعريفهم للنحو لغة وهذه الآراء تجمع على معاني الإبانة والإفصاح والإيضاح أما عن معنى النحو اصطلاحا ذكر الباحث مجموعة من الآراء ومن بينها قول الجرجاني :«اختلاف آخر الكلمة باختلاف العوامل لفظا وتقديرا »
-دلالة العلامات الإعرابية
هناك عَلاقة وطيدة بين العلامة الإعرابية والمعنى كما يرى معظم قدماء العربية وممن يذهب لهذا الرأي ابن فارس فهو يرى« أن الإعراب به تميز المعاني » ويقول ابن جني في هذا الباب: «الإعراب هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ » وتأكيدا لهذا الرأي يقول السيوطي في الإعراب «لولاه ما ميز فاعل من مفعول ولا مضاف من منعوت ولا تعجب من استفهام » لكن في المقابل فإن هذا الرأي وُجد من لا يتبناه من القدماء أنفسهم مثل قطرب ومن المحدثين من سار مسار قطرب إبراهيم أنيس صاحب (من أسرار العربية) الذي يرى «أن فائدة الحركات، أو العلامات الإعرابية هو وصل الكلام ببعضه أثناء الحديث، إذ يقول فليست الحركات في رأيي عنصرا من عناصر البنية في الكلام وليست دلائل على المعنى كما يظن النحاة » وملخص الرأي عند إبراهيم أنيس كما يقول الدكتور أحمد سليمان البطوش صاحب الدراسة :«لا يوجد رابط بين الضمة والفاعلية، والكسرة والإضافة والفتحة والمفعولية في اللغات السامية كما شرح النحاة »
ويزيد إبراهيم أنيس على ذلك قائلا إن :« تحريك أواخر الكلام لم يكن في الأصل إلا صورة للتخلص من التقاء الساكنين » وممن تصدى لإبراهيم أنيس مهدى المخزومي إذ يقول :« كيف يفسر الوقف على خالد في لغة من ينتظر؟ ولماذا كانت الدال مرفوعة، ومنصوبة، ومخفوضة في الجمل الثلاث (يعني بذلك الحالات الإعرابية المختلفة لكلمة خالد من رفع ونصب وجر) ولماذا لا تكسر لتنسجم
حركة الدال مع حركة اللام التي قبلها وعليه فإن القول بأن الحركات إنما هي سد للحاجة إلى وصل الكلمات بعضها ببعض، وأنها ليست أعلاما للمعاني، التي قصد إليها المتكلم، قول لم يحالفه التوفيق »
وفي هذا المقام :«يتساءل الباحث إذا كانت الحركات للتخلص من التقاء الساكنين فلماذا تتخلص لهجات العوام اليوم منها، فلا تلقي لها بالا؟ » ثم يعرّج الباحث إلى رأي مصطفى إبراهيم صاحب (إحياء النحو)الذي يأتي رأيه مطابقا لرأي الأكثرية في دلالة العلامات الإعرابية على المعنى «غير أنه زاد فرعا إلى أصل المسألة حين صرّح بجواز حذف الحركة الدالة على المعنى عند الضرورة » غير أن إبراهيم مصطفى يستثنى الفتحة فليست عنده علامة إعراب ولا تدل على شيء فهي حركة خفيفة مستحبة وهنا يتدخل البطوش صاحب الدراسة مذكرا بواقعة (ما أجمل السماء ) وما يماثلها من العبارات، فاللام يمكن أن تحرك بالضمة، أو بالفتحة، والهمزة يمكن أن تحرك بالكسرة، أو بالفتحة، وبالحركة تتغير الدلالة حتما في رأي عامة النحاة.
أما تمام حسان فعنده أن العلامات الإعرابية إحدى العلامات التي تدل على المعاني ويذكر أن هناك قرائن تدل على المعنى مثل الصيغة والربط والأداة والرتبة والمطابقة و التضام والنغمة.
ويختتم الباحث فصله الأول مؤكدا بعدم تجاهل دور العلامات الإعرابية في دلالتها على المعاني ولا ينفي وجود قرائن أخرى دالة على المعنى.،ومنبها بأن سيبويه والخليل هما من ألهما فكرة دلالة العلامات الإعرابية على المعنى.
-ثم يمضي الباحث في دراسته ويختار (التباين اللهجي) عنوانا لفصله الثاني من الكتاب ويعرفه لنا « مما تتميز به لهجة عن أخرى في بعض الأداء داخل اللغة ليس قصرا على جانب اللغة دون الآخر، وإنما يشمل جميع المستويات اللغوية» ومن لهجات العرب العنعنة وهي التي تقلب فيها الهمزة المبدوء بها إلى عين فيقولون في إنك: عنك وفي أذن عذن وغيرها.
ومن مظاهر التباين اللهجي:
١- حذف الحركة الإعرابية: كما في قوله تعالى :« فتوبوا إلى بارئكم» في قراءة أبي عمر بتسكين الهمزة إلا أن سيبويه وابن جني يقولان باختلاس الحركة وليس بتسكينها ويظن الباحث:« أن ما دفع سيبويه. وغيره من النحاة إلى مثل هذا الرأي هو عدم وقوعهم على شواهد من لغة النثر» ويرى أبو حيان في إسكان همزة (بارئكم) على أنها لغة تميم في معرض رده على المبرد.
ويعلق هنا الباحث: بأن النحاة يقبلون هذه اللهجة في لغة الشعر ومنهم ابن جني الذي استشهد ببيت شعري لجرير :
سيروا بني العم *فالأهواز* منزلكم
ونهر تبرى فلا تعرفْكم العرب
حيث سكون الفاء وحقها الرفع.
ويعلل الباحث قبول النحاة لهذه الظاهرة في الشعر بقوله: «لأنهم كانوا يرون في لغته خصوصية يفرضها الوزن العروضي في كثير من الأحيان » ومن الأبيات الشعرية التي يستشهد بها في هذا الباب لأبي نخيلة الراجز( شاعر مخضرم عاش في العصر العباسي):
إذا اعوججن قلت صاحب قوم
بالدو أمثال السفين العوم
حيث سكنت باء صاحب وحقها النصب باعتبارها منادى
٢- نصب الفعل المضارع بلم:
من المعروف عند عامة النحاة وخاصتهم أن لم تجزم الفعل المضارع «غير أن هناك لهجة عربية أخرى أوردتها بعض كتب النحاة تجيز نصب المضارع بلم » بل إن الأمر تعدى إلى تعطيل( لم) فيرتفع الفعل المضارع الذي يأتي بعدها كما في الشاهد الذي أورده الباحث الذي يقول
لولا فوارس من نعم وأسرتهم يوم الصليفاء لم *يوفون* بالجار
٣-جزم المضارع المعتقل الآخر بدون حذف حرف العلة: كما في قول قيس بن زهير
ألم يأتيك والأنباء تَنْمى= بما لاقت لبون بني زياد
«فقد أبقى الشاعر على الياء من كلمة (يأتيك)بالرغم من أنه سبق بالحرف الجازم لم »
وهناك العديد من اللهجات التي ساقها الباحث في كتابه
*موقف النحاة والمفسرين وأهل الشعر من اختلاف اللهجات*
في غالب الأمر أن أهل النحو« يعودون أثناء التوجيه إلى ما نصبوا من قواعد نحوية أما القراء والمفسرون فيلجأون في الغالب إلى المعيار اللهجي... » أما أهل الشعر فيلجأون إلى مصطلح الضرورة الشعرية.
أما في الفصل الثالث من الكتاب فقد طرق الباحث باب الجوار فدخل لمعناه لغة واصطلاحا، حيث عرّفه لغة قائلا « هو ما يدل على محاذاة الشيء والاقتراب منه والتعلق به» وعند حديثه عنه اصطلاحا يقول الباحث :«يبدو أن لفظ الجوار في عرف العلماء كان يدل على معنى عام ينسحب على كل ما حدث فيه تأثير تركيبي في الجملة بسبب الجوار » وذكر الباحث« أن ابن جني فقد كان من أكثر النحاة الذين تحدثوا عن ظاهرة الجوار في مصنفاتهم»
ومن الأمثلة التي ساقها الباحث على شواهد الجوار قول الشاعر:
*كأن نسج العنكبوتِ المرملِ* « فقد جر الشاعر لفظ (المرمل) على الجوار وهو في الحقيقة نعت للنسيج لا العنكبوت»
ومن الشواهد قول الشاعر:
فهل أنت إن ماتت أتانك راحلٌ إلى آل بسام بن قيس فخاطبِ
«فقد عطف الشاعر كلمة(خاطب) على كلمة( قيس) للقرب والمجاورة، رغم أن حقها أن تكون معطوفة بالرفع على كلمة راحل لدلالة المعنى على ذلك.
ثم ولج الكاتب إلى موضوع (الاتباع) وهو «الاقتفاء ولزم الشيء» لغة أما اصطلاحا فله معنيان :الأول«اتباع الحركة بمعنى أن تؤثر حركة في حركة سابقة أو لاحقة لها» «مثال لذلك كسر همزة (أم) إذا جاءت بعد كسر»
ويستشهد لهذا النوع بقول الشاعر :
اضرب الساقينِ إِمِك هابل
«فقد تأثرت العلامة الإعرابية في كلمة أمك في الميم للتحول من الضمة إلى الكسرة بفعل مجاورتها للهمزة المكسورة التي تأثرت هي الأخرى بحركة آخر ما قبلها»
أما المعنى الثاني للاتباع فقد عرفه ابن فارس :«هو أن تتبع الكلمة على وزنها أو رويها إشباعا وتأكيدا»
وفي أثناء تصفحنا لأبواب الدراسة وجدنا الباحث في فصله الرابع يكشف عن معنى مصطلح (التوهم) فقال في تعريفه لغة:« يدل على معنى الظن بالشيء، وتمثله أو تخيله... » أما عن معناه الاصطلاحي فلم يورد الباحث تعريفا له مكتفيا بقوله :« فإن علماء النحو لم يتفقوا على اصطلاح محدد له » ومن باب الفائدة وجدت في موقع الألوكة ما نصه عن موضوع التوهم : هو «تفسير تخيلي يضطر إليه النحاة والصرفيون؛ وذلك عن طريق الاستعانة بالمعنى في محاولة للتوفيق وتحقيق الانسجام بين ما قد يظن من خطأ في إعراب ألفاظ بعض التراكيب العربية الفصيحة؛ والتي لا ريب في صحتها، وبين القواعـد النحوية والصرفية، ومحاولة تفسير مجيئها على هذا النظم».
ومن شواهد التوهم في الأسماء قول الشاعر :
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا يبين غرابها
والشاهد في هذا البيت كلمة ناعب فتعرب « اسمٌ مجرورٌ عطفًا على خبر ليس بتوهُّمِ وجود الباءِ الزائدةِ فيه، وكأنه قالَ: ليسوا بمصلحين ولا ناعبٍ»
أما التوهم في الأفعال فقد أورد الباحث قول الأعشى :
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا
أو تنزلون فإنا معشر نزل
«فهو عند الخليل وسيبويه من العطف على التوهم حيث عطف الشاعر (تنزلون) على أن (تركبوا) لأن المعنى عندهما هو : لأن تركبون فذلك عادتنا أو تنزلون في معظم الحرب فنحن معروفون بذلك »
في الفصل الخامس - الأخير - من الكتاب يصل بنا الكاتب إلى (الحكاية) فينقل لنا معناها اللغوي من المعجم الوسيط :«الحكاية ما يحكى ويقص وقع أو تخيل» أما اصطلاحا فمعنى الحكاية كما يقول الجرجاني :هي «عبارة عن نقل كلمة من موضع إلى موضع آخر بلا تغيير حركة ولا تبديل صيغة.... »
ومن الشواهد النحوية على الحكاية التي ساقها الباحث قول ذي الرمة :
سمعت الناسُ ينتجعون بحرا فقلت لصيدح انتجعي بلالا
فقد أبقى الشاعر كلمة (الناس) مرفوعة كما نقلها ولم ينصبها جريا على القواعد رغم وجود العامل قبلها وهذا على نية الحكاية. ومن الشواهد التي ذكرها الكاتب قول الشاعر:
وجدنا في كتاب بني تميم أحقُ الخيل في الركض المعار
فقد ابقى الشاعر كلمة( أحق)مرفوعة « مع أن ظاهر الحال في السياق يقتضي حركة الفتحة لأن الكلمة في موضع نصب على أنها مفعول به»
وبعد ذلك لجأ الباحث إلى الضرورة الشعرية لكي يوضح لنا فحواها والدواعي إليها ونقل لنا معناها من معجم المصطلحات العربية « على أنها رخص منحت للشعراء كي يخرجوا عن بعض قواعد اللغة للوزن والقافية عندما يعرض لهم كلمة لا يؤدي معناها في موقعها سواها... » أما عن الدواعي إليها فينسب في هذا الباب إلى الزمخشري قوله
«ضرورة الشعر عشر عد جملتها» «قطع ووصل وتخفيف وتشديد»«مد وقصر وإسكان وتحريك» «ومنع صرف وصرف ثم تعديد»
إما عن الفرق بين الضرورة الشعرية والخطأ اللغوي فقد أجمل لنا الباحث رأي فتحي عبدالوهاب وهو أحد الباحثين المعاصرين قائلا :« إذا توافق وقوع المخالفة اللغوية في النثر والشعر معا فإن ذلك يسمى شذوذا لا ضرورة... » ومن شواهد الضرورة الشعرية قول المتلمس:
آليت حبَ العراق الدهر أطعمه … والحب يأكله في القرية السوس
«فقد أراد الشاعر (على حب العراق ) فحذف (على) ضرورة. ونصب ما بعده لكونه في موضع نصب »
ويذكر في هذا المقام بيت طرفة بن العبد
لنا هضبة لا ينزل الذل وسطها..... ويأوي إليها المستجير فيعصمَا «فقد عطف الشاعر (فيعصما) بالنصب على (يأوي) المرفوع بضمة مقدرة على الياء وهو ما لا يجوز إلا ضرورة»
وها أنا ذا أطوي صفحات هذه الرحلة العلمية وقد قضيت وقتا جميلا بصحبتها والسلام.